كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله تعالى يومان أحدهما: اليوم الذي هو مدّة عمر الدنيا فشأنه فيه أي: في كل يوم من أيامها الأمر والنهي والإماتة والإحياء والاعطاء والمنع، والثاني: يوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب والثواب والعقاب. وقال أبو سليمان الداراني: في هذه الآية له في كل يوم إلى العبيد برّ جديد.
وقال بعض المفسرين: شأنه تعالى أنه يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر عسكرًا من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمّهات، وعسكرًا من الأرحام إلى الدنيا، وعسكرًا من الدنيا إلى القبور ثم يرتحلون جميعًا إلى الله تعالى. وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا إنّ الله لا يقضي يوم السبت شيئًا.
وسأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية فاستمهله إلى الغد وذهب كئيبًا يتفكر فيها، فقال له غلام أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك لعل الله تعالى يسهل لك على يدي؛ فأخبره فقال: أنا أفسرها للملك فأعلمه فقال أيها الملك شأن الله تعالى أن يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحيّ، ويشفي سقيما، ويسقم صحيحا، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعز ذليلا، ويذل عزيزا، ويفقر غنيا، ويغني فقيرا، فقال الأمير: أحسنت، وأمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة، فقال: يا مولاي هذا من شأن الله تعالى.
وعن عبد الله بن طاهر: أنه دعا الحسين بن الفضل وقال له أشكلت عليّ ثلاث آيات دعوتك لتكشف لي قوله تعالى: {فأصبح من النادمين} [المائدة].
وقد صح أنّ الندم توبة. وقوله تعالى: {كل يوم هو في شان} وصح أنّ القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم].
فمعناه ليس له إلا ما يسعى فما بال الأضعاف؟ قال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون في هذه الأمة لأنّ الله تعالى خص هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم. وقيل: إنّ ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل ولكن على حمله، وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فمعناه أنه ليس له إلا ما يسعى عدلًا ولي أن أجزيه بواحدة ألفًا فضلًا، وأما قوله تعالى: {كل يوم هو شان} فإنها شؤون يبديها لاشؤون يبتديها؛ فقام عبد الله: فقبل رأسه وسوغ خراجه.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المدبر لكما هذا التدبر العظيم {تكذبان} أي: أبتلك النعم أم بغيرها؟.
{سنفرغ لكم} أي سنقصد لحسابكم وجزائكم؛ وقرأ حمزة والكسائي: بعد السين بالياء التحتية والباقون بالنون {أيه الثقلان} أي: الإنس والجنّ وذلك يوم القيامة فإنه تعالى لا يفعل ذلك في غيره قال القرطبي: يقال فرغت من الشغل أفرغ فراغًا وفروغًا وتفرّغت لكذا واستفرغت مجهودي في كذا أي بذلت وليس بالله تعالى شغل يفرغ منه؛ وإنما المعنى سنقصد لمجازاتكم ومحاسبتكم فهو وعيد لهم وتهديد قاله ابن عباس والضحاك؛ كقول القائل لمن يريد تهديده: إذا أتفرّغ لك أي أقصدك وأنشد ابن الأنباري لجرير:
الآن وقد فرغت إلى نمير ** فهذا حين كنت لهم عذابا

يريد: وقد قصدت، وأنشد الزجاج والنحاس:
فرغت إلى العبد المقيد في الحجل

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لما بايع الأنصار ليلة العقبة صاح الشيطان: يا أهل الحباحب هذا مذمم يبايع بني قيلة على حربكم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا أزبّ العقبة أما والله يا عدوّ الله لأتفرغنّ لك» أي: أقصد إلى إبطال أمرك. وهذا اختيار الكسائي وغيره. قال ابن الأثير الأزبّ في اللغة الكثير الشعر؛ وهو هاهنا شيطان اسمه أزبّ العقبة وهو الحية. وقيل: إنّ الله تعالى وعد على التقوى وأوعد على الفجور ثم قال تعالى: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} أي ما وعدناكم ونوصل كلًا إلى ما وعدناه أقسم ذلك وأتفرّغ منه قاله الحسن ومقاتل وابن زيد.
تنبيه:
رسمْ {أيه} بغير ألف فإذا وقف عليها وقف أبو عمرو والكسائي أيها بالألف ووقف الباقون على الرسم أيه وفى الوصل قرأ ابن عامر أيه برفع الهاء والباقون بنصبها.
فائدة: سمى الإنس والجن بالثقلين لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف؛ وقيل: سموا بذلك لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتا. قال الله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} [الزلزلة].
ومنه قولهم: أعطه ثقله أي وزنه؛ وقال بعض أهل المعاني كل شيء له قدر ووزن ينافس فيه فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعام: ثقل؛ لأنّ واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به؛ وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين لأنهما مثقلان بالذنوب؛ وقيل: الثقل الإنس لشرفهم وسمي الجن بذلك مجازًا للمجاورة والتغلب كالقمرين والعمرين والثقل العظيم الشريف. قال صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي».
{فبأيّ آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: المحسن إليكما بهذا الصنيع المحكم {تكذبان} أي: أبتلك النعم من إثابة أهل طاعته وعقوبة أهل معصيته أم بغيرها؟.
{يا معشر الجنّ} أي: يا جماعة فيهم الأهلية والعشرة والتصادق {والإنس} أي: الخواص والمستأنسين والمأنوسين المبني أمرهم على الإقامة والاجتماع {إن استطعتم} أي: وجدت لكم إطاعة الكون في {أن تنفذوا} أي: تسلكوا بأجسامكم وتمضوا من غير مانع يمنعكم {من أقطار} أي: نواحي {السموات والأرض} هاربين من الله تعالى من أنواع الجزاء بينكم، أو عصيانًا عليه في قبول أحكامه وجري مراداته وأقضيته عليكم من الموت وغيره. وقوله تعالى: {فانفذوا} أمر تعجيز والمعنى: إن استطعتم أن تجوزوا نواحي السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا، يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله تعالى أينما تولوا فثم ملك الله عز وجلّ.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس ههنا، وتقديم الإنس على الجنّ في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن} [الإسراء].
أجيب بأنّ النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجنّ أليق إن أمكن والإتيان بمثل القرآن بالإنس أليق إن أمكن فقدم في كل موضع ما يليق به.
فإن قيل: لم جمع في قوله تعالى: {سنفرغ لكم} وفي قوله تعالى: {إن استطعتم} وثنى في قوله: {أيه الثقلان} أجيب: بأنهما فريقان في حال الجمع كقوله تعالى: {فإذا هم فريقان يختصمون} [النمل].
{وهذان خصمان اختصموا في ربهم}.
{لا تنفذون} أي: لا تقدرون على النفوذ {إلا بسلطان} أي: إلا بقوّة وقهر وأنى لكم ذلك؟ وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا ولن تعلموا إلا بسلطان أي بينة من الله تعالى.
تنبيه:
في هذه الآيات والتي في الأحقاف وفي قل أوحى دليل على أنّ الجنّ مكلفون مخاطبون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء مؤمنهم كمؤمنهم وكافرهم ككافرهم.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} المحسن إليكما المربي لكما بما تعرفون به قدرته على ما يريد {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرهما؟.
وقال البغوىّ: وفي الخبر يحاط على الخلق بالملائكة وبلسان من نار ثم ينادون {يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم} الآية، فذلك قوله تعالى: {يرسل عليكما} أي: أيها المعاندون؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: حين يخرجون من القبور لسوقهم إلى المحشر {شواظ من نار} قال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع من النار. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو اللهب الخالص الذي لا دخان له. وقال الضحاك هو الدخان الذي يخرج من اللهب ليس كدخان الحطب وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر وقيل: هو اللهب الأحمر. وقال عمرو: هو النار والدخان جميعًا وحكاه الأخفش عن بعض العرب قال حسان:
هجوتك فاختضعت لها بذل ** بقافية تأجج كالشواظ

وقرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل صوار من البقر وصوار وهو القطيع من البقر.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: {ونحاس} فقيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله تعالى ويعذبهم به. وقيل: هو الدخان الذي لا لهب معه قاله الخليل، وهو معروف في كلام العرب؛ وأنشد الأعشى:
تضيء كضوء سراج السليـ ** ـط لم يجعل الله فيه نحاسا

وقال ابن برحان والعرب تسمى الدخان نحاسًا بضم النون وكسرها، وأجمع القراء على ضمها ا. ه وقال الضحاك: هو دردري الزيت المغلي. وقال الكسائي: التي لها ريح شديد. {فلا تنتصران} أي فلا تمتنعان ولا ينصر بعضكم بعضًا من ذلك بل يسوقكم إلى المحشر.
{فبأي آلاء} أي نعم {ربكما} أي: المدبر لكما هذا التدبير المتقن {تكذبان} أبتلك النعم- فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء- أم بغيرها؟.
{فإذا انشقت السماء} أي: انفرجت، فكانت أبوابًا لنزول الملائكة {فكانت وردة} أي: محمرّة مثل الوردة {كالدهان} أي: كالأديم الأحمر على خلاف العهد بها لشدّة حرّ نار جهنم. وقال مجاهد والضحاك وغيرهما: الدهان الدهن والمعنى صارت في صفاء الدهن؛ والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها؛ وقال الحسن: كصب الدهن فإنك إذا صببته ترى فيه ألوانًا؛ وجواب إذا فما أعظم الهول.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الخالق والرازق لكما {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما يكون بعد ذلك؟.
{فيومئذ} أي: فتسبب عن يوم إذ انشقت السماء أنه {لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جانّ} أي: سؤال تعرّف واستعلام، بل سؤال تقريع وتوبيخ وملام، وذلك أنه لا يقال له هل فعلت كذا؟ بل يقال له لم فعلت كذا؟ على أنّ ذلك اليوم طويل وهو ذو ألوان تارة يسأل فيه، وتارة لا يسأل والأمر في غاية الشدّة وكل لون من تلك الألوان يسمى يومًا فيسأل في بعض ولا يسأل في بعض وقيل: المعنى ألا يسألون إذا استقروا في النار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم لأنّ الله تعالى حفظها عليهم وكتبتها الملائكة؛ رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعن الحسن ومجاهد: لا تسأل الملائكة عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم؛ دليله قوله تعالى: {يعرف المجرمون بسيماهم} [الرحمن].
ورواه مجاهد عنه أيضًا: في قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين} [الحجر].
وقوله تعالى: {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن].
قال لا يسألهم ليعرف ذلك منهم ولكنه يسألهم لم عملتموها سؤال توبيخ؛ وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم؛ وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم ثم يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
تنبيه:
الجانّ هنا وفيما يأتي بمعنى الجني والإنس بمعنى الإنسي.
{فبأي آلاء} أي: نعم {ربكما} أي: الذي ربى كلًا منكم بما لا مطمع في إنكاره ولا خفاء فيه {تكذبان} أبتلك النعم أم بغيرها مما أنعم الله تعالى على عبادة المؤمنين في هذا اليوم؟.
{يعرف} أي: لكل أحد {المجرمون} أي: العريقون في هذا الوصف {بسيماهم} أي العلامات التي صور الله تعالى ذنوبهم فيها، فجعلها ظاهرة بعد أن كانت باطنة وظاهرة الدلالة عليهم، كما يعرف الآن الليل إذا جاء لا يخفى على أحد أصلًا وكذا النهار ونحوهما لغير الأعمى؛ قال البقاعي: وتلك السيمى والله أعلم زرقه العيون، وسواد الوجوه، والعمى والصمم والمشي على الوجوه، ونحو ذلك، وكما يعرف المحسنون بسيماهم: من بياض الوجوه، وإشراقها، وتبسمها، والغرّة والتحجيل، ونحو ذلك.